وتعدوا دمشق، فوصلوا إلى "نابلس"، ثم إلى "الكرك" وبيت المقدس، وتقدموا
إلى "غزة" دون أن يلقوا مقاومة تذكر، واضطر هولاكو فجأة إلى مغادرة سورية،
بعد أن جاءته الأخبار بوفاة أخيه الأكبر "منكوقاآن" في الصين، وبتنازع
أخويه الآخرين "قوبيلاي" و"أريق بوكا" ولاية العرش.
وقد استثمر التتار حرب الصاعقة، التي تعتمد على سرعة الحركة، كما استثمروا
حرب الأعصاب إلى أقصى مدى، فنشروا الذعر والخوف في كل مكان، وحيثما اتجهت
قواتهم كانت تسبقهم الأقاصيص عن طغيانهم وقسوتهم ومذابحهم.
موقف أوروبا
فرحت أوروبا النصرانية بانتصار التتار على المسلمين، فقد كانوا من أصدقاء
النصارى وفيهم بعض النصارى، ولهولاكو نفسه زوجة نصرانية، فضلاً عن أن
القائد الذي ولي أمر سورية عندما غادرها هولاكو كان نصرانيًا، كل هذا جعل
البابوات وحكام غرب أوروبا ينظرون إلى التتار وكأنهم حلفاؤهم في قتال
المسلمين.
والواقع أن فكرة تكوين حلف من الأوروبيين والتتار لتدمير البلاد
الإسلامية، كانت موضع تفكير البابوات في عصور متتالية، وكانت سياسية هؤلاء
تهدف إلى نشر الدين النصراني بين التتار، وقد تبادل التتار وحكام أوروبا
البعوث، وعلى سبيل المثال: فقد دعا لويس التاسع قسمًا من رجال أمير التتار
إلى فرنسا، حيث فاوضهم على عقد اتفاقية عسكرية، تنص على أن يقوم طرفاها
بعمليات حربية على المسلمين، يكون فيها دور التتار غزو العراق وتدمير
بغداد والقضاء على الخلافة الإسلامية، ويكون دور الصليبيين حماية هذا
الغزو التتري من الجيوش المصرية, وتجريد جيوشهم لمنع نجدة القوات المصرية
للمسلمين في آسيا، وبالأحرى تقوم بعزل مصر عزلاً تامًا عن سائر البلاد
العربية.
ولم يكفّ لويس التاسع عن العمل لاستمالة التتار، وتسخير قوتهم المدمرة
لضرب الإسلام، ففي السابع عشر من يناير سنة 1249م سنة 646هـ أرسل إلى أمير
التتار هدايا ثمينة حملها إلى الأمير وفد على رأسه الراهب الدومنيكي
"أندريه دي لونجيمو"، ومما يذكر أنه كان من بين هذه الهدايا قطعة من
الصليب المقدس وصورة للسيدة العذراء، ومختلف النماذج الصغيرة لعديد من
الكنائس.
ويقول الأسقف "دي مسنيل Du Masnil" -نائب مدير البعثات التبشيرية في روما-
في كتابه عن الكنيسة والحملات الصليبة: "اشتهر هولاكو بميله إلى النصارى
النسطوريين، وكانت حاشيته تضم عددًا كبيرًا منهم، من بينهم قائدهم الأكبر
"كتبغا" وهو تركي الجنس نصراني نسطوري، كما كانت الأميرة "دوكس خاتون"
زوجة هولاكو نصرانية أيضًا.
ولقد لعب نفوذ هذه الأميرة على زوجها دورًا خطيرًا، تفخر به الكنيسة في
تجنيب أوربا النصرانية أهوال الغزو التتري، وتوجيه غزوهم إلى العرب
المسلمين في الشرق العربي، حيث ذبحت قوات التتار العرب المسلمين في مذابح
بغداد، في الوقت الذي أبقت فيه على النصارى في تلك المدينة، فلم تمسهم في
أرواحهم أو أموالهم بأذى، كما لعبت الأميرة دورًا في إغراء زوجها باحتلال
سورية الإسلامية.
ويصف الأسقف حملة التتار فيقول: "لقد كانت الحملة التترية على الإسلام
والعرب حملة صليبية بالمعنى الكامل لها، حملة نصرانية نسطورية، وقد هلل
لها الغرب وارتقب الخلاص على يد "هولاكو" وقائده النصراني "كتبغا" الذي
تعلق أمل الغرب في جيشهما، ليحقق له القضاء على المسلمين، وهو الهدف الذي
أخفقت في تحقيقه الجيوش الصليبية، ولم يعد للغرب أمل في بلوغه إلا على
أيدي التتار خصوم العرب والمسلمين.
وقد بادر "هاتون الأول" -ملك إرمينية - و"بوهومونت السادس" - أمير طرابلس
-، وأمراء الإفرنج "صور" و"عكا" و"قبرص" بادر هؤلاء جميعًا إلى عقد حلف مع
التتار، يقوم على أساس القضاء على المسلمين كافة في آسيا، وتسليم هؤلاء
الأمراء بيت المقدس.
ويقول "دي مسنيل" في كتابه عن تاريخ التبشير: "إن النصارى هم الذين حرضوا
"هولاكو" على الرحيل عن سورية إلى بلاده، ومحاربة أخيه هناك، بسبب موالاته
للإسلام".
وأخيرًا انتهى أمل الصليبيين بدخول التتار في الإسلام، وفي ذلك يقول
الأسقف "دي مسنيل" واصفًا هذه الخاتمة: "وهكذا نرى الإسلام الذي كان قد
أشرفت قوته على الزوال، يسترد مكانته، ويستعيد قوته، ويصبح أشد خطرًا من
ذي قبل".
لقد كانت مهمة قطز صعبة جداً، لأنه كان عليه أن يواجه الخطر الداخلي
المتمثل بالارتباك والفوضى في نظام الحكم والصراع على السلطة، وفي الوقت
نفسه كان عليه أن يواجه الخطر الخارجي المتمثل بالغزو التتري الداهم
المتحالف مع الصليبيين في الغرب والشرق معًا.
زحف التتار